شرح حديث: مثل البخيل والمتصدق
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا، ومن سيِّئات أعمالنا؛ من يهده الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعدُ:
فسأُقدِّم في هذا المقال شرحًا موجزًا لحديث "مثل البخيل والمتصدق"، مستعرضًا قولَ كبار شرَّاح الحديث.
أولاً نص الحديث:
قال الإمام البخاريُّ - رحمه الله -:
حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا أبو عامر، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن، عن طاوس، عن أبي هريرة، قال: "ضرب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مثَلَ البخيل والمتصدق، كمثَل رجُلين عليهما جبَّتان من حديد، قد اضطرَّت أيديهما إلى ثُدِيِّهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدَّق بصدقة انبسطت عنه، حتى تغشَى أناملَه، وتعفوَ أثره، وجعل البخيل كلما همَّ بصدقة قلَصت، وأخذت كلُّ حلقة بمكانها"، قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بإصبعه هكذا في جيبِه، فلو رأيتُه يوسِّعها ولا تتوسَّع".
معاني الكلمات:
التَّرْقُوَةُ على تقدير فَعْلُوَة، وهو وصلُ عظمٍ بين ثُغْرة النحر والعاتق في الجانبينِ.
وجمعها التراقي، وقد ترْقَيتُ فلانًا: إذا أصبت ترقوتَه؛ تهذيب اللغة.
قلَصت: يقال قلَصت الدرع: اجتمعت وانضمت، ودرعٌ مقلَّصة؛ أي: مجتمعة منظمة، يقال: قلَصت الدرع وتقلَّصت، وأكثر ما يقال فيما يكون إلى فوق.
الجيب: يقال: جيب مجوب ومجَوَّبٌ، وكلُّ مجَوَّفٍ وسطُه فهو مجَوَّبٌ، والمقصود هنا فتحة الثوبِ التي تخرج منها الرقبة.
وجاء في بعض الروايات: جُنتان لا جُبتان.
قال النووي: "وهو تمثيل لنماء المال بالصدقة والإنفاق، والبخلُ بضد ذلك، وقيل: هو تمثيلٌ لكثرة الجود والبخل، وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء، وتعوَّد ذلك، وإذا أمسك صار ذلك عادةً له، وقيل: معنى يمحو أثرَه؛ أي: يذهب بخطاياه ويمحوها، وقيل في البخيل: قلَصت ولزِمت كلُّ حلقة مكانها؛ أي: يحمى عليها يوم القيامة، فيُكوى بها، والصواب الأول، والحديث جاء على التمثيل لا على الخبر عن كائن، وقيل: ضُرب المثَل بهما؛ لأن المنفقَ يستره الله - تعالى - بنفقته ويستر عوراته في الدنيا والآخرة، كستر هذه الجنَّة لابسَها، والبخيل كمن لبس جبَّة إلى ثَدييه، فيبقى مكشوفًا باديَ العورة، مفتَضَحًا في الدنيا والآخرة".
قال الخطابيُّ وغيره: وهذا مثَل ضربه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للبخيل والمتصدِّق فشبَّههما برجلين أراد كلُّ واحد منهما أن يلبَس درعًا يستتر به من سلاحِ عدوه، فصبَّها على رأسه ليلبَسَها، والدروع أول ما تقع على الصدر والثَّديين إلى أن يُدخلَ الإنسانُ يديه في كميها، فجعل المنفقَ كمن لبِس درعًا سابغةً، فاسترسلت عليه حتى سترت جميعَ بدنه، وهو معنى قوله: حتى تعفوَ أثرَه؛ أي: تسترَ جميع بدنه، وجعل البخيل كمثَل رجل غُلَّت يداه إلى عنقِه، كلما أراد لُبْسها اجتمعت في عنقِه، فلزِمت تَرقوتَه، وهو معنى قوله: قلَصت؛ أي: تضامَّت واجتمعت، والمراد أن الجَوَاد إذا همَّ بالصدقة انفسح لها صدرُه، وطابت نفسه، فتوسَّعت في الإنفاق، والبخيل إذا حدَّث نفسَه بالصدقة شحَّت نفسُه، فضاق صدرُه، وانقبضت يداه، ومن يُوقَ شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون، وقال المهلَّب: المراد أن اللهَ يستر المنفقَ في الدنيا والآخرة بخلاف البخيلِ، فإنه يفضحه، ومعنى: تعفو أثره: تمحو خطاياه، وتعقَّبه عياضٌ بأن الخبرَ جاء على التمثيلِ لا على الإخبار عن كائنٍ، قال: وقيل هو تمثيلٌ لنماء المال بالصدقة والبخل بضده، وقيل: تمثيل لكثرةِ الجود والبخل، وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء، وتعوَّد ذلك، وإذا أمسك صار ذلك عادةً، وقال الطيبي: قيَّد المشبَّه به بالحديد إعلامًا بأن القبضَ والشدةَ من جبلَّة الإنسانِ، وأوقع المتصدقَ موقع السخيِّ؛ لكونه جعله في مقابلةِ البخيل، إشعارًا بأن السخاءَ هو ما أمَر به الشارع، وندب إليه من الإنفاقِ لا ما يتعاناه المسرفون.
يقول الدكتور وجيه الشيمي: "هذا المثَلُ من النبي يغرِس فينا معنيين: الأول: بُغض البخل، والثاني: حبُّ الإنفاق والكرم.
وهذان المعنيانِ اهتم بترسيخِهما القرآنُ والسنَّة.
أما الأول، فهو بُغض البخل، فورد في ذلك عددٌ من الآيات؛ منها قوله - تعالى -:
﴿ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 37].
يقول الشوكاني في فتح القدير: "والبخل المذموم في الشرع: هو الامتناعُ من أداء ما أوجب اللهُ، وهؤلاء المذكورون في هذه الآية، ضمُّوا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشرُّ خصال الشرِّ - ما هو أقبحُ منه، وأدلُّ على سقوط نفس فاعله، وبلوغه في الرذالة إلى غايتها، وهو أنهم مع بخلهم بأموالهم وكتمهم لِما أنعم الله به عليهم من فضلِه يأمرون الناس بالبخلِ، كأنهم يجدون في صدورِهم من جُود غيرهم بمالِه حرجًا ومضاضة، فلا كثَّر في عباده من أمثالكم، هذه أموالكم قد بخلتم بها؛ لكونكم تظنون انتقاصَها بإخراج بعضِها في مواضعه، فما بالكم بخلتم بأموالِ غيركم؟ مع أنه لا يلحقكم في ذلك ضررٌ، وهل هذا إلا غاية اللُّؤم، ونهايةُ الحُمق والرقاعة، وقُبح الطِّباع، وسوء الاختيار، وقد تقدَّم اختلافُ القراءات في البخل، وقد قيل: إن المراد بهذه الآية: اليهود، فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر، والبخل بالمال، وكتمانِ ما أنزل الله في التوراة، وقيل: المراد بها: المنافقون، ولا يخفى أنَّ اللفظ أوسعُ من ذلك، وأكثر شمولاً، وأعمُّ فائدةً".
وقال الشوكاني أيضًا في تفسير قوله - تعالى-: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آل عمران: 180].
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم، الموصول: في محل رفعٍ على أنه فاعل الفعل، على قراءة من قرأ بالياء التحتية، والمفعول الأول محذوف، أي: لا يحسبنَّ الباخلون البخلَ خيرًا لهم؛ قاله الخليل وسيبويه والفراء، قالوا: وإنما حُذف لدلالة يبخلون عليه، ومن ذلك قول الشاعر:
إذا نُهِي السَّفيه جرَى إليه
وخالَف والسفيهُ إلى خلافِ
أي: جرى إلى السَّفه، فالسفيهُ دل على السَّفه، وأما على قراءة من قرأ بالفوقية: فالفعل مسنَدٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والمفعول الأول محذوف؛ أي: لا تحسبنَّ يا محمد بُخلَ الذين يبخلون خيرًا لهم، قال الزجاج: هو مثل: واسْأَل القرية، والضمير المذكور: هو ضميرُ الفصل، قال المبرِّد: والسين في قوله:
﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ ﴾: سِينُ الوعيد، وهذه الجملة مبينة لمعنى قوله: ﴿ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ﴾، قيل: ومعنى التطويق هنا: أنه يكون ما بخِلوا به من المال طوقًا من نار في أعناقهم، وقيل: معناه: أنه سيَحملون عقابَ ما بخلوا به، فهو من الطاقة، وليس من التَّطويق، وقيل: المعنى: أنهم يَلزمون أعمالهم كما يلزم الطوقُ العنقَ، يقال: طوِّق فلانٌ عملَه طَوْقَ الحمامة؛ أي: أُلزِم جزاءَ عمله، وقيل: إن ما لم تؤدَّ زكاتُه من المال، يمثَّل له شجاعًا أقرعَ، حتى يطوَّق به في عنقه؛ كما ورد ذلك مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: والبخلُ في اللغة: أن يمنعَ الإنسانُ الحقَّ الواجب، فأما من منَع ما لا يجبُ عليه، فليس ببخيلٍ.
قوله: ﴿ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾؛ أي: له وحده لا لغيره؛ كما يفيده التقديم، والمعنى: أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلُها، فما بالهم يبخلون بذلك، ولا ينفقونه وهو لله - سبحانه - لا لهم، وإنما كان عندهم عاريةً مستردة".
يقول الدكتور وجيه الشيمي: وثمة موضعٌ آخر في القرآن يُبين اللهُ فيه فضيلةَ الكرم والإنفاق وثوابه، وعقوبةَ البخل والشح، بل إن اللهَ يجعل الإنفاق قرينَ التقوى والتصديق بيوم القيامة، ويجعل البخل والشحَّ ملازمين للاستغناء والتكذيب بآيات الله؛ قال - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 10]".
ومن أعظمِ الآيات التي تحدَّثت عن النفقة والمنافقين: قوله - تعالى -: ﴿ مثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261].
"قال الشوكاني: وقد ورد القرآن: بأنَّ الحسنةَ بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية: بأن نفقةَ الجهاد حسنتُها بسبعمائة ضِعف، فيبنى العامُّ على الخاص، وهذا بِناءً على أن سبيل اللهِ هو الجهاد فقط، وأما إذا كان المراد به وجوه الخير، فيُخص هذا التضعيفُ إلى سبعمائة بثواب النَّفقات، وتكون العَشرة الأمثال فيما عدا ذلك.
قوله: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ هذه الجملة متضمِّنةٌ لبيان كيفية الإنفاق".
الألوكة
..........